سبب ذلك أن المهدي لما استقامت له البلاد، ودان له العباد، وباشر الأمور بنفسه، وكف يد أبي عبد الله، ويد أخيه أبي العباس - وهما أكبر دعاته- داخل أبا العباس الحسد، وعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي، والأخذ والعطاء، فأقبل يزري على المهدي في مجلس أخيه، ويتكلم فيه، وأخوه ينهاه، ولا يرضى فعله، فلا يزيده ذلك إلا لجاجا، ولم يزل حتى أثر في قلب أخيه، فقال أبو عبد الله يوما للمهدي: "لو كنت تجلس في قصرك، وتتركني مع كتامة آمرهم وأنهاهم؛ لأني عارف بعاداتهم، لكان أهيب لك في أعين الناس".

وكان المهدي سمع شيئا مما يجري بين أبي عبد الله وأخيه، فتحقق ذلك، ثم صار أبو العباس يقول: "إن هذا ليس الذي كنا نعتقد طاعته، وندعو إليه؛ لأن المهدي يختم بالحجة، ويأتي بالآيات الباهرة"، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس، فاتفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع، وعزموا على قتل المهدي، واجتمع معهم قبائل كتامة إلا قليلا منهم، وكان معهم رجل يظهر أنه منهم، وينقل ما يجري إلى المهدي، ودخلوا عليه مرارا فلم يجسروا على قتله، فأمر المهدي عروبة ورجالا معه أن يرصدوا أبا عبدالله وأخاه أبا العباس، ويقتلوهما، فلما وصلا إلى قرب القصر حمل عروبة على أبي عبدالله، فقال: لا تفعل يا بني، فقال: الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك؛ فقتل هو وأخوه، فقيل: إن المهدي صلى على أبي عبدالله، وقال: رحمك الله أبا عبدالله، وجزاك خيرا بجميل سعيك.

وثارت فتنة بسبب قتلهما، وجرد أصحابهما السيوف، فركب المهدي وأمن الناس، فسكنوا، ثم تتبعهم حتى قتلهم.

وثارت فتنة ثانية بين كتامة وأهل القيروان قتل فيها خلق كثير، فخرج المهدي وسكن الفتنة، وكف الدعاة عن طلب التشيع من العامة، ولما استقامت الدولة للمهدي عهد إلى ولده أبي القاسم نزار بالخلافة.


هو الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا أبو عبد الله الشيعي المعروف بالقائم؛ فهو الذي قام بالدعوة لعبيد الله المهدي جد ملوك مصر, ويعرف كذلك بالمعلم؛ لأنه يعلم الناس عقائد الباطنية, وأصله من اليمن من صنعاء، وقيل: كان من أهل الكوفة، سار من سلمية من عند عبيد الله المهدي داعيا له في البلاد، وتنقلت به الأحوال إلى أن دخل المغرب, وكان من دهاة العالم، وأفراد بني آدم دهاء ومكرا ورأيا.

دخل إفريقية وحيدا بلا مال ولا رجال، فلم يزل يسعى ويتحيل ويستحوذ على النفوس بإظهار الزهادة والقيام لله، حتى تبعه خلق وبايعوه، وحاربوا صاحب إفريقية مرات.

وآل أمره إلى أن تملك القيروان، وهرب صاحبها أبو مضر زيادة الله الأغلبي آخر ملوك بني الأغلب منه إلى بلاد الشرق.

كما قضى على دولتي بني مدرار والرستمية في أفريقية، حتى مهد القواعد للمهدي ووطد البلاد, فأقبل المهدي من الشرق وسلمه الأمر، ثم كف المهدي يده ويد أخيه أبي العباس، فندم أبو عبد الله على ما صنع وأضمر الغدر هو وأخوه بعبيد الله، فاستشعر منهما المهدي الغدر, فدس إليهما من قتلهما في ساعة واحدة، وذلك بمدينة رقادة, فتوطد الملك لعبيد الله.


هو أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي نسبة إلى راوند بلدة من أصبهان، ولد عام 210, فيلسوف مجاهر بالإلحاد، له مناظرات ومجالس مع علماء الكلام، انفرد بمذاهب نقلت عنه في كتبه، كالقول بالحلولية، وتناسخ روح الإله في الأئمة، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: "أنا أريد أن أعرف مذاهبهم"، ثم كاشف وناظر، وصنف في الزندقة- لعنه الله- قيل: إن أباه كان يهوديا فأظهر الإسلام، قال ابن حجر: "كان أولا من متكلمي المعتزلة، ثم تزندق واشتهر بالإلحاد" وقيل: إنه كان لا يستقر على مذهب ولا يثبت على شيء، ويقال: كان غاية في الذكاء، قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي: "كنت أسمع عنه بالعظائم، حتى رأيت له ما لم يخطر مثله على قلب" وهو أحد مشاهير الزنادقة، طلبه السلطان فهرب إلى ابن لاوي اليهودي بالأهواز، وصنف عنده مصنفات، منها كتاب "الدامغ للقرآن" وضعه ليطعن به في القرآن، وفي النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم لم يلبث إلا أياما حتى مرض ومات, وكتاب في الرد على الشريعة سماه "الزمردة"، قال ابن عقيل: "عجبي كيف لم يقتل وقد صنف «الدامغ»" قال بعض اليهود للمسلمين: لا يفسدن عليكم هذا كتابكم، كما أفسد أبوه علينا التوراة".

واختلف في موته، فقيل: مات وهو عند اليهودي، وقيل: بل صلب، عاش أكثر من ثمانين سنة، فلا رحمه الله.

وجازاه بما يستحقه.


استولى أبو نصر أحمد بن إسماعيل الساماني على سجستان، وسبب ذلك أنه لما استقر أمره، وثبت ملكه في بلاد ما وراء النهر، خرج في سنة 297 إلى الري، وكان يسكن بخارى، ثم سار إلى هراة، فسير منها جيشا في المحرم سنة ثمان وتسعين إلى سجستان، وسير جماعة من أعيان قواده وأمرائه، منهم أحمد بن سهل، ومحمد بن المظفر، وسيمجور الدواتي، وهو والد آل سيمجور ولاة خراسان للسامانية، واستعمل أحمد على هذا الجيش الحسين بن علي المروروذي، فساروا حتى أتوا سجستان، وبها المعدل بن علي بن الليث الصفار، وهو صاحبها، فلما بلغ المعدل خبرهم سير أخاه أبا علي محمد بن علي بن الليث إلى بست والرخج؛ ليحمي أموالها، ويرسل منها الميرة إلى سجستان، فسار الأمير أحمد بن إسماعيل إلى أبي علي ببست، وجاذبه وأخذه أسيرا، وعاد به إلى هراة، وأما الجيش الذي بسجستان فإنهم حصروا المعدل وضايقوه، فلما بلغه أن أخاه أبا علي محمدا قد أخذ أسيرا، صالح الحسين بن علي، واستأمن إليه، فاستولى الحسين على سجستان، فاستعمل عليها الأمير أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق، وهو ابن عمه، وانصرف الحسين عنها ومعه المعدل إلى بخارى.


هو أبو القاسم الجنيد بن محمد البغدادي النهاوندي الخزاز- لأنه كان يعمل في الخز- أصله من نهاوند، ولد ببغداد قيل بعد 220، ونشأ فيها، كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه، تفقه على أبي ثور, وسمع من الحسن بن عرفة وغيره, واختص بصحبة السري السقطي.

أتقن العلم، ثم أقبل على شبابه، واشتغل بما خلق له، سمع الكثير، وشاهد الصالحين وأهل المعرفة، ورزق من الذكاء وصواب الإجابات في فنون العلم ما لم ير في زمانه مثله عند أحد من أقرانه، ولا ممن أرفع سنا منه ممن كان منهم ينسب إلى العلم الباطن والعلم الظاهر في عفاف وعزوف عن الدنيا وأبنائها.

كان يفتي في حلقة أبي ثور الكلبي وله عشرون سنة.

يقال: إنه أول من تكلم في علم التوحيد ببغداد، عده العلماء شيخ الصوفية؛ لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، ولكونه لم يتلبس بعقائد فاسدة، وكان يقال له طاووس العلماء، أخذ الطريقة عن خاله سري السقطي، كان الجنيد يقول: "مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به" يعني: في مذهبه وطريقته، أثنى عليه وعلى كلماته الوعظية كثير من العلماء، توفي في بغداد ودفن عند قبر خاله.